اليوم وعلى خشبة المسرح الكبير في كلية الفنون الجميلة بجامعة بابل ؛ تم عرض مسرحية تخته والتي تتجلى فيها أهمية نص العرض المسرحي في قدرته على إثارة الأسئلة، وفق سياقاته السمعية والبصرية واللغوية لتأثيث منظومة جمالية ومعرفية، لا تتوقف عند حدود محلية الوقائع والأحداث، بل تتعداه لتتمدد على أكبر مساحة شمولية تحايث وضعاً إنسانياً، وبذلك سيساهم نص العرض المسرحي هذا في صياغة الخطاب الفني المؤثر في تكوين الوعي، لدى المتلقي الذي يستنفر جميع حواسه لاستقبال خطاب العرض.

تسعى العروض المسرحية الرصينة إلى مخاطبة الكل عبر خصوصية الجزء، كما في نص العرض المسرحي (التخته) وهو من تأليف وإخراج الفنان مهند ناهض الخياط وتجسيد الفنانين حسنين الملا بدور الأب و أصيل العساف.
ويذكر أن المخرج هو مؤلف النص وقد اختار مشكلة العصر والتي تعاني منها المجتمعات وهي مشكلة الهجرة من الوطن الأم وأن اختلفت دوافعها، فأنها في المحصلة النهائية محاولة لإيجاد طريقة عيش جديدة تخلّف وراءها العديد من فواعل القهر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ولا شك بأن وضع كهذا يسهم في تخليق بنية الفقد المؤقت أو الدائم في تركيبة المجتمع، وأزاء هذا الفهم فإن المعالجة الدرامية لمشكلة الهجرة، اتجهت صوب تخليق عناصر التقاطع والمجابهة من طبيعة التضاد الحاصل بين شخصيتين العجوز والشاب من جهة وشكّلا جبهة فالرجل العجوز يعاني من انقطاع اخبار ولده، الذي هاجر من مدة طويلة، بحثاً عن حياة أخرى، وشكّل هذا الانقطاع هاجس قلق وريبة لدى الأب، أما الشاب الواقع تحت طائلة الفاقة والحرمان والبطالة، فهو الآخر يحاول بشتى السبل الاتصال بإحدى شركات التشغيل خارج الوطن، إذاً فالاثنان الأب والشاب ينزعان لتحقيق علاقة ما بالهناك، ولعل القراءة السيسيويدسيمائية هي الأقرب لمعاينة موجهات العرض المسرحي، الذي عمد مخاطبة مرجعية المتلقي عبر جملة من العلامات الراكزة في المخيال الجمعي، فكانت (التختة)، وهي علامة تمتلك دلالات متعددة، لعلّ أقربها إلى موجهات العرض هي دلالة الانتظار، إذ امتلكت هذه العلامة حضوراً توافق كثيراً مع الحالة الدرامية، فالأب ينتظر رسالة من ولده، والشاب ينتظر جوابًا من شركات التشغيل إلّا أن كلًا من الأب والشاب، قد اختلقا وسيلة تخفف من عبأ الانتظار، دون أن يعلم أحدهما بما فعله الآخر، لتوكيد الفعل الإنساني بين الشخصيتين، فالشاب يؤلمه ما وصل إليه الأب من حالة اليأس والقنوط، لانقطاع أخبار ولده، فيلجأ إلى كتابة رسالة مفتعلة على أنها من ولد العجوز، لخلق حالة الرضا والاطمئنان لدى الأب، الذي هو الآخر يكتب رسالة مموهة على أنها من احدى شركات التشغيل، ويضع فيها شروطا صعبة التحقيق لثني الشاب عن اتخاذ قرار الهجرة الموروث لحالة الأذى النفسي والاجتماعي، الذي عاشه الأب وخَبِر عواقبه، إلّا أن هذا الوهم يسقط عند دخول ساعي البريد، الذي يحمل رسالتين الأولى الى الأب والثانية الى الشاب، إلّا أن ما يثير استغراب الأب والشاب معاً هو مغايرة خط الرسالتين عن سابقتها، التي أرسلت إلى الأب من قبل الشاب وإلى الشاب من قبل الأب، ليكتشفا أن الرسالتين السابقتين، كانتا موهومتين، وأن كلاً منهما قد كتبها الأب والشاب، وعلى الرغم من هذه اللعبة كانت بحاجة إلى مفارقة لكشفها إلّا أن المعالجة الدرامية لحل هذه الإشكالية كانت ضعيفة، ولم تمتلك قدرة الإقناع، إذ لجأ المخرج إلى دفع الشخصيتين إلى إجراء مقارنة بين خط الرسالتين الأخيرتين بخط الكلمات، التي سبق وأن كتبها كلٌ من الأب والشاب على خشبة التختة، فقد كانت هذه المقارنة ضعيفة وبحاجة إلى معالجة أكثر دقة واقناع، فقد كانت نهاية العرض معتمدة على ما أنتجته تلك المفارقة، إذ أسقط في يد الأب أن ولده لم يعد له وجود دون أن نعلم ما تضمنته تلك الرسالة، كما أسقط بيد الشاب بعد أن عرف بمصير الابن لينثني عن قرار الهجرة، لقد كان على المخرج أن يعتني بوضع معالجات درامية لهذا المشهد الاخير الذي كان عليه وضع النقاط على الحروف بشكل أكثر اقناعاً، دون أن يضع المشاهد بمنطقة مرتبكة البناء الدرامي اعتمدت على الإيحاء، الذي دعمه المخرج بجملة من الأفعال والحوارات بين الأب والشاب لتأكيد بنية الوهم، ووضع الحل الأمثل والمنطقي لهذا التقاطع، بين الوهم والواقع الذي واجهه الأب والشاب من قبل ساعي البريد